JustPaste.it

زجر الغلمان عن إنكار تكسير الصلبان , لأبي القاسم الأصبحي


بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد :
فقد سَرَّ المسلمون ما فعله جنود الدولة الإسلامية في مدينة الرقَّةِ من تكسير للصلبان الظاهرة في مدن المسلمين , ولم يعكِّر صفو هذا السرور إلا قلةٍ من الدنيويين الحمير الذين أظهروا على الدولة النكير , وليس هذا الأمر بغريب , فهذه الطائفة لا تعرف موطأً يغيظ المسلمين ويسرّ الكفار والمشركين إلا وطأته , فصدور ذلك منهم ليس بغريب , لكن العجيب الغريب أن يُطلق النكير عليك من تظنُّ فيه خيراً من المجاهدين ولا حول ولا قوة إلا بالله .
فأطلقوا النكير على الدولة وزعموا أن هذا الفعل ليس بصحيح لعدم وجود التمكين التام !!
والحقُّ أن قولهم هذا باطلٌ مردود كما سنبينه في آخر هذه الرسالة .
وقد سألني أحد إخواني أن أرد على من أطلق النكير على الدولة وزعم أن تكسير الصلبان الظاهرة في مدينة الرقة ممنوع لانعدام التمكين .
فأجبته إلى طلبه وجعلتُ هذه الرسالة مختصرة لكثرة الصوارف , وقد رقمتها دفاعاً عن دين الله وذبًّا عن المجاهدين في سبيل الله وإلجاماً للجاهلين الخائضين في دين الله بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منير .
وهذا آوان الشروع في ذلك فأقول :
الكلام على هذه المسألة في مقامات :

* فأولُّ هذه المقامات : هي بيان أمصار المسلمين وحكم بناء الكنائي في كلٍّ منها :
فأمصار المسلمين :
- إما أن تكون فُتحت عُنوةٍ , فهذه الأرض يجوز للإمام أن يهدم كل كنائسها بالإجماع .
نقلَ الإجماع على ذلك ابن تيمية في الصحيفة الأولى بعد المائة من رسالته مسألة في الكنائس المطبوعة بمكتبة العبيكان إذ قال :
" فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم ومن قبلهم من الصحابة والتابعين متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة كأرض مصر والسواد بالعراق وبرِّ الشام ونحو ذلك مجتهداً في ذلك ومتبعاً في ذلك لمن يرى ذلك لم يكن ذلك ظلماً منه بل تجب طاعته في ذلك وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم كانوا ناقضين للعهد (1) , وحلّت بذلك دمائهم وأموالهم " انتهى .
- وإما أن تكون قد فُتحت صُلْحاً بعهدٍ وذمةٍ ودفعٍ للجزية , فهؤلاء يُقرون على الشروط العمرية التي تلقتها الأمة بالقبول ووقع الإجماع عليها .
ومن هذه الشروط هي ما ذكرها نصارى الشام في رسالتهم إلى أمير المؤمنين أبي حفص رضي الله عنه في قولهم :
" ولا نُحدث كنيسةً ولا ديراً ولا صومعةً ولا قلّاية , ولا نجدد ما خرب منها ولا نقصد الاجتماع فيما كان منها في خطط المسلمين وبين ظهرانيهم , ولا نظهر شِركاً ولا ندعوا إليه ولا نظهر صليباً على كنائسنا ولا في شيء من طرق المسلمين " ثم قالوا بعد ذلك : " شرطنا ذلك كلَّه على أنفسنا وأهل ملتنا فإن خالفناه فلا ذمة لنا ولا عهد , وقد حلّ لكم منّا ما يحل لكم من أهل الشقاق والمعاندة " انتهى كلامهم .
وهذه الشروط قد وقع الإجماع عليها من الصحابة رضوان الله عليهم ولم يوجد فيهم مخالفٌ لها فعُلم من ذلك اعتبار هذا الإجماع واستقراره , وهو ما نصّ عليه السبكي رحمه الله في الصحيفة الواحدة والتسعين بعد الثلاثمائة من الجزء الثاني من فتاواه عندما تكلم عن قول ابن عباس قال :
" وقد أخذ العلماء بقول ابن عباسٍ هذا وجعلوه مع قول عمرٍ وسكوتِ بقية الصحابة إجماعاً " انتهى نصّ كلامه رحمه الله .
- وإما أن تكون مدائن مُصِّرت وبُنِيت في عهد الإسلام , فهذه لا يجوز بناء الكنائس فيها ابتداءً بالإجماع فلا تكون في مدن المسلمين هذه كنيسة ولا بيعة , وقد نقل الاتفاق على ذلك أبو العباس ابن تيمية في رسالته مسألة في الكنائس الصحيفة الثانية بعد المائة :
" وقد اتفق المسلمون على أنّ ما بناء المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة مثل ما فتحه المسلمون صلحاً وأبقوا لهم كنائسهم القديمة , بعد أن شرط عليهم فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يُحدثوا كنيسة في أرض الصلح فكيف في بلاد المسلمين " انتهى كلامه .
وكل بيعةٍ أو كنيسة بُنيت بعد الإسلام فحقّها الهدم , ولا خلاف في ذلك ويدل عليه ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " لا تُبنى بيعة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها " .
ومنه يُعلم أن كثيراً من الكنائس التي أُحدثت في الشام والعراق ومصر وغيرها من البلدان بعد الفتح هي مما يجب هدمها وإزالتها بإجماع المسلمين .

* أما ثاني هذه المقامات فهي في حكم تكسير الصلبان .
فاعلم أنه جائزٌ في حقّ الكفار المحاربين وفي حق الذِّمي إن جاوز الحد , أما إن لم يجاوز الذّمي الحدّ فحينئذٍ لا يجوز تكسير صلبانهم حفظاً لذمتهم وعهدهم .
كما نصّ عليه ابن حجر رحمه الله في الفتح إذ قال :
" ولا يخفى أن محل جواز كسر الصليب إذا كان مع المحاربين أو الذمي إذا جاوز به الحدّ الذي عوهد عليه " انتهى .

* أما ثالث هذه المقامات .
هو في تنزيل القسمة التي ذكرناها على مدينة الرقّة .
فاعلم حفظني الله وإياك أن مدينة الرقّة قد فُتحت صلحاً , ويدلّ على ذلك ما أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق عن عياض بن غنم أنه صالح أهل مدينة حرّان وافتتحوا أبوابها ومدينة الرَّقَّة بعثوا يطلبون الصلح فصالحهم وافتتح عياض الجزيرة كلها .
وقد أقر عمر ابن الخطاب نصارى الشام بالشروط التي ذكرناها وقد وقع الإجماع عليها بحمد الله , ومن تلك الشروط هي قولهم " ولا نظهر شِركاً ولا ندعوا إليه ولا نظهر صليباً على كنائسنا ولا في شيء من طرق المسلمين " .
ثم اعلم أن مدينة الرقّة اليوم ليست كما هي في عهد عمر ابن الخطاب , فإنها اليوم في غالبها مسلمة موحدةٌ لله عز وجل , ويوجد قلةٍ قليلة من النصارى فيها .
ولا يشكُّ عاقلٌ أريب أنهم قد جاوزا الحدّ في ذمتهم , وذلك أنهم أعلوا صلبانهم فوق كنائسهم وفي الشروط العمرية أن لا يعلنوا بشرك ولا يرفعوا صليباً , وهذا كثيرٌ في بلاد المسلمين اليوم , وهو أمرٌ موجبٌ لنقض عهدهم وذمتهم إن أصرّوا على ذلك ولم يزيلوه .
ففعل نصارى الرقة اليوم وغيرهم من نصارى الشام هو مجاوزةٌ للحد في أقل الأحوال ويجب على من قدر على أمثال هؤلاء أن يكسر ما ظهر وأُعلن من صلبانهم وشركهم , ولا خلاف في ذلك بين المسلمين والحمد لله .
ولا يجوز أن يُرفع أو يظهر في بلاد المسلمين صليبٌ بإجماع كل من شم رائحة العلم سلفاً وخلفاً .
وهذا هو عين ما حصل مع المجاهدين في الرقّة , فقد جاوز هؤلاء القُلف الحدَّ وأعلنوا بشركهم وجاهروا بصليبهم في بلاد المسلمين حالهم في ذلك حالُ كثيرٍ من النصارى في الشام ومصر وفي غيرها , فكان لزاماً على من قدر أن يزيله ويحطّمه .
ومما رُوي موقوفاً على أبي حفص رضي الله عنه قوله : " إيّاكم وأخلاق الأعاجم ومجاورة الخنازير وأن يُرفع بين أظهركم الصليب " .

* أما رابع هذه المقامات :
فهي في زعم بعضهم ترك صلبان النصارى ظاهرة مرفوعة في مدينة الرقة حتى يأتي التمكين العام !!
قلتُ : أما قولهم " التمكين العام " فهو لفظٌ محدثٌ لا نعرف معناه , فإن كانوا يقصدون ترك تكسير هذه الصلبان إلى أن التمكين في جميع بلاد الشام .
فهذا القول هو من تلبيس إبليس عليهم , والدولة بحمد الله مُمَكَّنة في الرقة وقد أعلى الله شأنها هناك ولا حرج من تكسير الصلبان إن رأوا في ذلك مصلحةً , ولا يُشترط أن يُمكّنوا من سائر أرض الشام حتى يحطموا الصلبان !!!
فهذا شرطٌ لا نعرفه في كتاب الله ولا سنة رسوله .
بل دونك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حطّم أصنام المشركين في مكّة ولم يستوسق الأمر له في جزيرة العرب , وقد كانت جميع العرب نجدهم ويمنهم وحجازهم تُعظم تلك الأصنام , ومع ذلك حطّمها رسول الله ولم يتركها حتى يحصل له التمكين العام على سائر جزيرة العرب !!
ولا خلاف بين المسلمين في جواز تكسير صلبان الذميين من النصارى إن جاوزا الحد .
حينئذٍ لا شك في فساد لازم قولكم الذي قلتم ومصلحتكم التي زعمتم , وإذا بطل اللازم بطل الملزوم .
وما نعلمه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا قدر على تكسير الأصنام وغيرها , فعل ذلك على الفور ولم يتراخى في ذلك , واعتبره في فتحه لمكة عليه الصلاة والسلام .

فتمت بذلك أربع مقامات كافياتٍ شافياتٍ للرد عليهم , وقد كتبتها اختصاراً في ضحى اليوم مع كثرة الشواغل والصوارف .
فأسأل الله أن يتقبل منّي قبولاً حسناً ويدخلني مدخل صدقٍ .
والله يغفر لنا ولكم .
----------------------------------------
(1) لعل ما أثبته ها هنا هو الأصح من حيث اللغة , إذ أن المطبوع أثبتها بخلاف ما أثبتناه فقال : " ناقضين العهد " ولا شك عند من شم رائحة النحو أن هذا لحنٌ بيِّنٌ , فإن الجمع المذكَّر إذا أُضيف حُذفت نونه فيُقال : " ناقضي العهد " ولا يُقال : " ناقضين العهد " فعُلم أن ما أثبتناه هو الأصح والله أعلم .