JustPaste.it
                                                  التعريف بالقرآن الكريم وأنه المعجزة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم




التعريف بالقرآن الكريم وأنه المعجزة العظمى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد تحدى القرآن بأساليب منوعة، وكونه معجزاً بألفاظه ومعانيه، وأن الناس لم يُصْرفوا عنه، والردّ على من قال بالصرفة
.
اعلم أن تعريف القرآن الكريم: هو كلام الله المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته، وقد عرفه صاحب المراقي في ألفيته بقوله(3) : لفظ منزّل على محمّد لأجل الإعجاز وللتعبد(4)




ويطلق بالاشتراك اللفظي على مجموع القرآن، وعلى كل آية من آياته
(5) فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول إنه يقرأ القرآن "وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"الأعراف : 204
والقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة لأن المعجزات على ضربين الأول ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله واستفاضت بثبوته ووجوده ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة، ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقاً كثيراً وجمّا غفيراً، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علماً ضرورياً، وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود النبي صلى الله عليه وسلم قال القرطبي(6): "لأن الأمة رضي الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفاً عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه الصلاة والسلام، المعلوم وجوده بالضرورة وصدقه بالأدلة المعجزات، والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل، فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان، ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه ويسمعونه لكثرة العدد، ولذلك وقع لنا العلم الضروري بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن ظهور القرآن على يديه وتحديه به، فالقرآن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة مع أن معجزة كل نبي انقرضت بانقراضه أو دخلها التبديل كالتوراة والإنجيل، فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم تقوله أنزل الله تحدياً لهم قوله "أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ"الطور : 33-34 ثم تحدّاهم وأنزل تعجيزاً أبلغ من ذلك فقال "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ" هود: 13. فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار فقال جل وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ"البقرة: 23. فأفحموا عن الجواب وتقطعت بهم الأسباب، وعدلوا إلى الحروب والعناد وآثروا سبي الحريم والأولاد، ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا وأبلغ في الحجة وأشد تأثيراً مع كونهم أرباب البلاغة وعنهم تؤخذ الفصاحة.
واعلم أن القرآن نفسه هو المعجز بألفاظه ومعانيه لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه، وما قاله النظام ومن على شاكلته من أن وجه الإعجاز في القرآن هو أنهم منعوا منه وصرفوا عنه قول فاسد، لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز، فلو قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزاً، وذلك خلاف الإجماع.

 

 

 

                                                                 متى بدأ النزول وكم كانت مدة النزول
إن بحث نزول القرآن وتاريخ نزوله، لمن أهم المباحث إذ به تعرف تنزلات القرآن الكريم، ومتى نزل، وكيف نزل، وعلى من نزل وكيف كان يتلقاه جبريل من الله تبارك وتعالى؟ ولاشك أن العلم بذلك يتوقف على كمال الإيمان، بأن القرآن من عند الله، وأنه المعجزة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم ، كما أن كثيراً من المباحث التي تذكر في هذا الفن يتوقف على العلم بنزوله، فهو كالأصل بالنسبة لغيره.
أنزل الله القرآن الكريم على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فكان نزوله حدثاً جللاً مؤذنا بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل السماء والأرض.
فإنزاله الأول في ليلة القدر نبه العالم العلوي على شرف هذه الأمة، وأنها القائدة التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس.
قال تعالى "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" البقرة الآية 185 ، فقد مدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأنه اختاره من بينها لإنزال القرآن العظيم فيه، قال ابن كثير(12): "وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء ".
قال الإمام أحمد بن حنبل(13) رحمه الله حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة يعني ابن الاسقع- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان.
وقد روى من حديث جابر بن عبد الله وفيه أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة والباقي كَمَا تقدم رواه ابن مردويه(14).
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة وأما القرآن فكان نزوله الأول جملة واحدة إلى بيت العزة من سماء الدنيا، كما تدل عليه الآيات: "شَهْرُ رَمَضَانَ "البقرة: 185 "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ"الدخان : 3 .
أما تاريخ نزول القرآن منجماً وهو النزول الثاني، فقد كان بعد الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم حينما بعث في يوم الاثنين وكان أول ما نزل عليه صدر سورة اقرأ كما ذكر ذلك محققو أهل العلم من أهل التفسير والحديث والسير.

 

قال في الاتقان(16): "أما إنزاله الثاني مفرقاً على حسب الوقائع خلافا لما كان معهوداً عندهم في الكتب السابقة فقد أثار الضجة عند القوم حتى حملهم على المحادّة والمساءلة حتى ظهر لهم الحق فيما بعد من أسرار الحكم الإلهية في إنزاله منجما على حسب الوقائع حتى أكمل الله الدين".
هذا وقد يظن البعض أن الآيات من قوله "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ"البقرة:185 الخ وقوله "حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ" الدخان:1-3 وقوله "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ"القدر : 1. بينها تعارض والواقع أنه لا تعارض بينها، فالليلة المباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان، وإنما يتعارض ظاهرها مع الواقع العملي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن القرآن نزل عليه خلال ثلاث وعشرين سنة.
وقد روى من غير وجه عن ابن عباس كما قال إسرائيل عن السدي عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ"وقد أنزل في شوال وذي القعدة وفي ذي الحجة ومحرم، وصفر وشهر ربيع فقال ابن عباس وجمهور العلماء:إن المراد بنزول القرآن في تلك الآيات الثلاث، نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا تعظيما لشأنه عند الملائكة، ثم أنزل بعد ذلك منجما على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام في ثلاث وعشرين سنة، حسب الوقائع والأحداث منذ بعثه صلى الله عليه وسلم إلى أن توفى حيث أقام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنين وهذا المذهب هو الذي جاءت به الأخبار الصحيحة عن ابن عباس في عدة روايات منها:
1- عن ابن عباس قال أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا(17) ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ "وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا"الفرقان : 33. وقوله "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ" الإسراء : 106.
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم.
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه إثر بعض. رواه الحاكم والبيهقي(18).
4- وعنه رضي الله عنه قال أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوماً "رواه الطبراني".
2- المذهب الثاني: هو المروي عن الشعبي أن المراد بنزول القرآن في الآيات الثلاث ابتداء نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ابتدأ نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان وهي الليلة المباركة، ثم تتابع نزوله بعد ذلك مندرجاً مع الوقائع والأحداث في قرابة ثلاث وعشرين سنة.
قال: فليس للقرآن إلا نزول واحد هو نزوله منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا هو الذي جاء به القرآن قال تعالى "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ"الإسراء:106، ولهذا جادل فيه المشركون لكون الكتب السماوية نقل إليهم نزولها جملة واحدة قال تعالى "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا* وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا"الفرقان:32-33.
قال: ولا يظهر للبشرية مزية لشهر رمضان وليلة القدر التي هي الليلة المباركة إلا إذا كان المراد بالآيات الثلاث نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يوافق ما جاء في قوله تعالى في غزوة بدر "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" الأنفال:41. وقد كانت غزوة بدر في رمضان، ويؤيد هذا ما عليه المحققون في حديث بدء الوحي.
عن عائشة قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح"(19) فالمحققون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبئ أولاً بالرؤيا في الشهر الذي ولد فيه وهو شهر ربيع الأول، وكانت المدة بين الرؤيا والوحي إليه يقظة ستة أشهر ثم أوحي إليه يقظة بـ "اقْرَأْ"
قال الشيخ مناع القطان رحمه الله(20) "وبهذا تتآزر النصوص على معنى واحدٍ".
3-المذهب الثالث:يرى أن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر في كل ليلة منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، وهذا القدر الذي ينزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا لسنة كاملة ينزل بعد ذلك منجماً على رسول صلى الله عليه وسلم في جميع السنة.
ولاشك أن هذا المذهب اجتهاد من بعض المفسرين فليس هناك ما يدل عليه، أما المذهب الثاني فإنه لا تعارض بينه وبين المذهب الأول الذي هو مذهب ابن عباس والجمهور.
فالراجح أن القرآن الكريم له تنزّلان، كما علمت:
الأول:نزوله إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة.
وقد نقل القرطبي(21) الإجماع على هذا النزول عن مقاتل بن حيان وممن قال بقوله الخليمي والماوردي(22). الثاني:نزوله من السماء الدنيا مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة.
                                                كيف كان يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي من جبريل

1-أحيانا يأتي جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في صفة رجل من البشر وكان كثيراً مايأتي في صورة دحية الكلبي.

2-وأحياناً يأتي ولا يراه الحاضرون، وقد يسمعون له دوياً وصلصلة كصلصلة الجرس.

ودل على هاتين الحالتين من الوحي مارواه البخاري في صحيحه(30) بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيقصم عَنّي وقد وعيت منه ماقال: وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي مايقول … الخ هذا والقرآن الكريم لم ينزل منه شيء إلا عن طريق جبريل عليه السلام ولم يأت منه شيء عن تكليم أو إلهام أو منام، بل كله أوحي به في اليقظة وحيا جلياً(31).
                                                                       نزول القرآن مفرقا – منجما -

قال تعالى "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ " الشعراء : 192-195 وقال تعالى "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " النحل : 102 ويقول تعالى "حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ " الجاثية 1-3. وقال تعالى "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ "البقرة : 23 وقال تعالى "قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " البقرة : 97 فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه العربية وأن جبريل نزل به على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذا النزول غير النزول الأول إلى السماء الدنيا فالمراد به نزوله منجما، ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج والتنجيم فإن علماء اللغة يفرقون بين الإنزال والتنزيل فالتنزيل لما نزل مفرقا، والإنزال أعم(32).

فقد نزل القرآن الكريم على مدى ثلاث وعشرين سنة ثلاث عشرة بمكة على القول الراجح، وعشر بالمدينة المنورة.

من الأدلة على نزول القرآن مفرقاً قوله تعالى "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً " الإسراء : 106 والمعنى: جعلنا نزوله مفرقا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت، ونزلناه تنزيلاً بحسب الوقائع والأحداث(33).

قال الزرقاني في مناهل العرفان(34) :"وفي تعدد النزول وأماكنه، مرة في اللوح وأخرى في بيت العزة، وثالثة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك التعدد مبالغة في نفي الشك عن القرآن الكريم، وزيادة للإيمان لأن الكلام إذاسجلarrow-10x10.png في سجلات متعددة، وصحت له وجودات كثيرة كان ذلك أنفى للريب عنه، وأدعى إلى تسليم ثبوته، وأدنى إلى وفرة الايقان به مّما لو سجّل في سجل واحد، أو كان له وجود واحد ".
                                                                                  نزول الكتب السماوية الأخرى

الصحيح المشهور بين العلماء أن الكتب السماوية غير القرآن نزلت جملة واحدة ولم تنزل متفرقة، ومن الأدلة على ذلك آية الفرقان، وهي قوله تعالى "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا " الفرقان : 32.

فهذه الآية دليل على أن الكتب السماوية غير القرآنية نزلت جملة واحدة كما على ذلك جمهور العلماء.

ووجه الدلالة أن الله لم يكذبهم في دعواهم أن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة، فلو كان نزول الكتب السماوية مفرقا لما كان هناك مايدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن مفرقاً منجما، لأن معنى قوله "لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً" هلاّ أنزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب، وماله أنزل على التنجيم ولم ينزل مفرقا، بل بيَّن لهم الحكمة من نزول القرآن منجما، ولو كانت الكتب السماوية نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول لهم إن التنجيم سنة الله في الكتب التي أنزلت على الرسل كما أجاب بمثل ذلك في قولهم "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ " الفرقان : 7. قال في الرد عليهم "وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ " الفرقان : 20. فبيّن لهم أن ذلك سنن المرسلين والأنبياء(35).
                                                                    الحكم التي تستفاد من نزول القرآن مفرقاً منجما

هذا ولاشك أن في نزول القرآن منجما -مفرقا- على حسب الوقائع والأحداث حِكَما وأسراراً عظيمة، كيف وذلك التنجيم ممّن أنزل القرآن وهو سبحانه أعلم بما يصلح عبادة "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " الملك : 14. يعلم سبحانه المنهج الصالح لتربية الأمّة المنهج الذي يجعلها أمّةً منقادة لأوامر الله، منتهية عن مساخطه.
                                                             ونلخص هنا بعض الحكم التي ذكرها العلماء والباحثون في هذا المجال:-

1- الحكمة الأولى تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتطمين خاطره وقلبه وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى هذه الحكمة في قوله " كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا" الفرقان : 32.
2 – من الحكم البارزة تيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه على النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على ذلك غاية الحرص، حتى إنه كان يعاجل جبريل ولاينتظره حتى يفرغ حتى أنزل الله "وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا " طه الآية 114. وقال تعالى "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ " القيامة : 16-19.
3- من الحكم كذلك التدرج في تربية الأمة دينيا وخلقيا واجتماعيا وعقيدة وعلماً وعملا وهذه الحكمة أشار إليها القرآن في قوله "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً " الإسراء : 106
4 – من الحكم كذلك، تثبيت قلوب المؤمنين وتعويدهم على الصبر والتحمل بذكر قصص الأنبياء، ومالاقوه وأن العاقبة للمتقين كقوله تعالى "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ " النور الآية 55 وكقوله "الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " العنكبوت الآية 1-3.
5 - التحدي والإعجاز: فالمشركون تمادوا في غيهم وبالغوا في عتوهم، وكانوا يسألون أسئلة تعجيز وتحدّ يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوته، ويسوقون له من ذلك كل عجيـب كعلـم الســاعة "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ " الأعراف: 187. وكقوله "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ " سورة الحج : 47. وحيث عجبوا من نزول القرآن منجماً بين الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقاً مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم جيئوا بمثله، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم "لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً " الفرقان:32.