بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد :-
فالحمدُ لله المانح في عِزِّ المِحن , المُيسِّر في وقت العُسر .
نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه .
نحمده سبحانه آناء الليل وأطراف النَّهار على ما منَّ به علينا من آلاء ونِعم ما لنا فيها من يدٍ وما هي إلا محضُ فضل الله !
الصُّبح لا يأتي إلا بعد أن يشتد حلك اللَّيل !
ففي الليل لا يُزيِّل المرء بين الخيطِ الأبيض من الخيط الأسود !
فإذا تنفَّس الصُّبح أدرك البَصير الفرق بين الأسود المرباد وبين الأبيض الأمهق وزيَّل بينهما تزييلاً لا يُشكل عليه بعد !
اعلموا رحمكم الله أنَّه قد جمعني قبل أكثر من سنةٍ من الآن مجلسٌ مع أحدِ الأحبَّة وقد كان ذلك قبل الانشقاق الحاصل في الشّام اليوم وقبل أن يُعلن أحدٌ تمدَّد الدَّولة إلى الشَّام .
وقد كُنّا نتكلّم في مسألةٍ من مسائل الدِّين وهي إعذار المشركين الجاهلين أو المتأوّلين وعدم تسميتهم بالمشركين وبيان ضلالُ المبتدعةِ المُرجئة في هذه المسألة !
فجرَّنا الحديث إلى الكلام في مُعتقد أيمنِ الظَّواهري , وقد كان صاحبي ذلك يُبجُّله تبجيلاً قبيحاً وكُنت أُنكر عليه ذلك , وأقسمت له حينها أنَّه سيأتي يومٌ تحصلُ فيه نُفرةٌ بين الظَّواهري وأمير المؤمنين أبي بكر وجنوده حفظهم الله .
فهاج صاحبي وماج ولولا فضلُ الله ونعمته علينا لكنَّا حينها بين ضاربٍ ومضروبٍ !! ولكنَّ الله سلَّم !
ولم تنسلخ سنةٌ كاملةٌ حتى جاء صاحبي هذا وأقرَّ لي بالحقّ وبما قد أنكره عليَّ من قبل !
وتلك شيمةُ المنصفين يرجعون عن غيِّهم إذا استيقنوا !
فالحمدُ لله أولاً وآخراً .
ولستُ ممن يفرح بخلافٍ أو نفرةٍ حاصلةٍ بين المسلمين !
ولكنَّني أفرحَ إذا عملَ كلِّ امرئٍ بمُقتضى اعتقاده ؛ لأنَّ ذلك أدعى لعرفان أهل الحق والباطل والتَّزييل بينهما .
فأنا بفضلِ الله لم أكن أعجبُ مما حصل اليوم , ولكن عجبي هو من سبب تأخّر إظهار هذا الأمر سنةً كاملةً !
وقد كنتُ أُنكر على من يزعم اتّفاق أمير المؤمنين مع الظّواهري في جميع مسائل المُعتقد !
لعلمي بقول الثَّاني في المُشركين الرَّافضة وغيرهم ممن ينتسب للإسلام وإعذاره لهم خلافاً لعقيدة أهل السنّة والجماعة .
واليوم بان الأمر وظهر , وتلك لعمر الله من فضائل الشَّام !
وقبل الشُّروع في ردِّ ما جاء في كلمته لا بدَّ من تبيين أمورٍ :-
فأولها : أن لا يُشغِّب عليَّ مشغِّبٌ جهول قائلاً : لماذا تطعن في الظَّواهري ؟!
أو
الظَّواهري جاهد عشرات السَّنين وأنت لا تزال نُطفةً في ظهر أبيك !!
فكلُّ ذلك من الجهل والتَّعصّب للباطل .
فالظَّواهري بشرٌ كغيره يُصيب ويُخطئ ولم يأخذ هو ولا غيره عهداً من الله أن لا يُخطؤوا !
وليس من الطَّعن تبيانُ الحقِّ من الباطل وتبيانُ وجه الخطأ ومكمن العطن !
وكونُ الرَّجل قد جاهد عشرات السِّنين فهذا أمرٌ نعرفه ولا ننكره .
بل لو جاهد ألف ألف سنةٍ ثم جاء بباطل لما جاز لعارفٍ بباطله قادرٍ على ردِّه وإزهاق باطله بالحق أن يُسكت عنه أبداً !
وذلك إجماعٌ لا يُخالف فيه أحدٌ إلا المُتعصَّبة فإنَّهم يوافقونه بقولهم ويخالفونه بفعالهم !
وثانيها : أنَّه قد استبان لكلِّ امرئٍ اليوم صدقَ قولِ أمير المؤمنين في كلمته حين قال : «وإنهما والله الفسطاطان» انتهى .
فاليوم في الشَّام فسطاطان :
فسطاطُ كفرٍ ونفاقٍ لا إيمان فيه قد اجتمعت فيه الأحزاب مواليةً الصَّليبين والمرتدين مقاتلةً من يليها من المسلمين .
وفسطاطُ إيمانٍ لا نفاق ولا كفر فيه قد اجتمع فيه الموحدون وأجمعوا أمرهم على محاربة المرتدين واستئصالهم على بكرةِ أبيهم !
وليس بين هذين الفسطاطين إلا من خذل المسلمين !
ومن ظنَّ أن الأمر مُتعلقٌ باسم الدَّولة أو أنَّه مُتعلق باسم أمير المؤمنين فقد أخطأ !
فمُتعلَّق الأمرِ هو حربٌ بين أهل الإسلام وبين أهل الرَّدة , لا نشكُّ في ذلك أبداً .
ولن يغلبَ أحفادُ النُّمري والتَّميمي أحفادَ السَّاعاتي بإذن الله !!
والله خيرٌ ناصراً وهو أحكم الحاكمين !
ومعلومٌ أنَّ ما تُسمَّى زوراً وبُهتاناً بالجبهة الإسلامية قد تولَّت هي وخُدنائها من الائتلاف الكفري الشِّركي حرب الدَّولة الإسلامية والتَّشريد بمجاهديها بل واغتصاب بعض زوجات المجاهدين ونسائهم ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وهي بصنيعها هذا لا خلاف في الحكم بأنَّها طائفةُ ردَّة تُقاتل حتّى تتوب إلى الله أو تُفنى كما صنع أبو بكر رضي الله عنه .
ولا تضمن الدَّولة من كان في مقرَّات المُرتدين وقُتل عرضاً لا قصداً -لو سلَّمنا بأنَّ جنود الدَّولة من قتلوا أبا خالد- .
فاللُّوم لا يكون على من قاتلهم واستهدف مقرَّاتهم , وإنَّما اللُّوم يكون على من جنح إلى مُعسكرهم وقعد في مقرَّاتهم !
وثالثها : أن يُقال : إذا لم يكن لكم بُدٌّ من رثاء أبي خالد !
فما بالكم سكتم عن رِثاء مسعر الحرب أبي بكر العراقي تقبَّله الله في الشُّهداء ؟!
أم أنَّ دماء المسلمين تتجزَّأ وتتبعَّض ؟! فيُرثى من يميل إلينا أمَّا من قُتل من معسكر الجهل والهوى والظُّلم فلا نرثيه ولا نرفع به رأساً !
وذلك تحزُّب واضحٌ والعياذ بالله .
مع أنَّ الجبهة الإسلامية قد اعترفت بقتلها للهزبر أبي بكر رحمه الله ومن يُنازع في ذلك فهو جاهلٌ لا يعرفُ من واقعِ الشَّام شيئاً !
والمرءُ لا يعدِل بأبي بكر رحمه الله أحداً ! ولو بألفٍ ألف كمثل أبي خالد!
إن قلتم : أبو بكر خارجيٌّ بعثيٌّ ذو فتنة وقتله أحبُّ إلينا من بقائه , فقد كان غُصَّة وحنظلةً في حلوقنا !
قلنا لكم : لَرجلٌ بعثيٌّ قد تابَ وأناب خيرٌ وأحبُّ إلى الله من كثيرٍ من أهل الضَّلال والنُّكوص ولو اغبرَّت أقدامهم في الجهاد !
سلَّمنا لكم جدلاً وتنزُّلاً -وهيهات لذلك- بأنَّه بعثي وقتله أولى .
فما بالُ مئات المُهاجرين قد سكتُّم عن إنكار مقتلهم ولا رثائهم ؟!
فما بالُ نساءٍ للمهاجراتِ اغتُصبن ولم نسمع لكم رِكزاً ؟!
فليس ثَمَّ إلا التُّحزّب والعياذ بالله !
* قال أيمن الظَّواهري :
«أما التعزية فهي في هذه الفتنة العمياء ، التي حلت بأرض الشام المباركة » انتهى كلامه .
وقد يظنُّ المرء ههنا أنَّ مقصوده بالفتنة هو الاقتتال الحاصل !
وليس ذلك بالسَّليم !
فقد أبانَ مقصده بالفتنة ههنا بقوله من بعدُ :
«وأخبرني -رحمه الله- أنه يرى في الشام بذور الفتنة، التي عاصرها في بشاور، فتنة الجهل والهوى والظلم، التي تستبيح الدماء والأعراض بالدعاوى والشبه والهوى والطمع .» انتهى كلامه .
فالفتنة عنده ليست الاقتتال الحاصل كما يظن البعض , وإنَّما هم أهل الجهل والهوى والظُّلم الذين يستبيحون الدِّماء والأعراض بالدَّعاوى والشُّبه والهوى والطَّمع !
وهذا تعريضٌ ظاهرٌ منه بأمير المؤمنين وجنده حفظهم الله وردَّ كيد شانئيهم .
ومن به لوثةٌ تورُّعٌ باردةٍ سمجةٍ ويتأوّلها في غير أمير المؤمنين فلا يكمل هذه المقالة فإنها أثقلُ عليه من جبل أحدٍ !
ونشهد أنَّ أمير المؤمنين وجنده مُبرَّؤون من هذه الفِرية التي رماهم بها براءةَ الذِّئب من دم ابن يعقوب !
فالجاهل بعقيدة السَّلف هو الذي يعذرُ المشركين المنتسبين للإسلام ويُثبت لهم اسم الإسلام ! وهذا لعمري من أعظم الجهل وأقبحه !
وذو الهَوى هو الذي يكفِّر طواغيتَ الدُّنيويين العلمانيين كمرسي وابن علي وغيرهم ولا يعذرهم بجهلٍ أو تأويل !
ثم إذا وقع طواغيت الإخوان المفسدين كمرسي والغنوشي وهنية وغيرهم في نظير ما وقع فيه طواغيت الدُّنيويين نكص عن تنزيل حكم الرَّدة مُتعلَّلاً بجهلهم أو تأويلهم ! وهذا لعمري من أعظم الهوى وأقبحه !
والظَّالم حقًّا وصدقاً هو من يتَّخذ من الخصوم شهوداً فيصدرُ عن رأيهم ويرعي سمعه لكذبهم ! ولكم في أبي خالدٍ عبرةٌ وعظةٌ ! وذلك لعمري من أعظم الظُّلم وأقبحه !
وكذلك الظَّالم حقًّا وصدقاً هو من يسكتُ عن إجرام جنودِه في الشَّام واستباحتها لدماء المسلمين وقتلها لخيرة المجاهدين في ولاية الخير بل وتولِّيها للمُرتدين من الائتلاف ومن ملحدي الأكراد ومظاهرتهم على المسلمين ! فذاك لعمرُي ظالمٌ حقًّا !
والآخذ بالدَّعاوى والشُّبه هو ذلك الذي يميل إلى شهادة الخصوم على خصومهم لحاجةٍ في نفسه ! فيصحِّحُ رأيهم ويقول بقولهم بلا علمٍ ولا هدى ولا كتابٍ منيرٍ !
والآخذ بالدَّعاوى والشُّبه هو من يرمي فريقاً من أمير المؤمنين وجنوده حفظهم الله بقتل أبي خالد مع أنَّهم قد أوضحوا براءتهم من ذلك !
فأنَّى لذي رمدٍ أن تُبصر ضوءَ الشَّمس ؟!
وأربابُ الطَّمع حقًّا وصدقاً هو ذلك الذي عمَد إلى مال وجنود وسلاحِ أمير المؤمنين فاتَّخذها لنفسه وما خاف الله ولا اتَّقاه ! وذلك لعمري من أعظم الطَّمع وأظهره وأقبحه !
فأيُّ الفريقين أحقُّ بوصف الجهل والظلم والهوى والطَّمع وغيرها إن كنتم تُبصرون ؟!
* قال أيمن الظواهري :
«وفي هذا الجاني المسكين المغرر به، الذي دفعه من دفعه بدافع الجهل والهوى والعدوان والطمع في السلطة ليقتل شيخاً من شيوخ الجهاد .» انتهى كلامه .
وقوله : «والطَّمع في السُّلطة» هو تعريضٌ بأمير المؤمنين وتاجُ الموحِّدين في هذا العصر أبي بكرٍ الحُسيني حفظه الله ونصره .
وحاشا لمن سعى في إقامةِ فرضٍ من فروض الدِّين بالإجماع مع عدم القائم بها والسَّاعي إليها ألا وهي الإمامة أن يُرمى بأنَّه طامعٌ في سلطة أو جاه !
ومن قال بذلك فهو جاهلٌ لا يفقه من دين الله شيئاً !
وإنَّما يرمي أمير المؤمنين بالطَّمع من آنس من المسلمين تقبَّلٌ لأمير المؤمنين فخاف أن يسطو على مكانةٍ كانت من قبل عند الجُهَّال خالصةً له ! والله المستعان !
* قال أيمن الظواهري :
«هذه الفتنة تحتاج من كل المسلمين اليوم أن يتصدوا لها، وأن يشكلوا رأيا عاما ضدها، وضد كل من لا يرضى بالتحكيم الشرعي المستقل فيها، وأؤكد على المستقل، فلا عبرة بتحكيم يعين أعضاءه الخصوم .» انتهى .
وهذا تحريضٌ منه على الدَّولة وتأليبٌ للنَّاس عليها ! والله حسيبه في ذلك .
والله ناصرٌ عباده وناصرٌ من نصره واتّقاه .
أما التَّصدي لمن لا يرضى بالتَّحكيم المُستقل فهذه بدعةٌ من كيسه لا تُخرَّج على قولٍ صحيحٍ أبداً ولا تُستسيغها طبائع الموحِّدين !
والطَّامة الكُبرى هي قوله : « فلا عبرة بتحكيم يعين أعضاءه الخصوم » ولا حول ولا قوة إلا بالله .
فهذا قولٌ لا يُؤثر عن أحدٍ ولو طردناها لنبذنا كتاب الله ورائنا ظِهرياً والعياذ بالله !
والمشكلُ ههنا هو نفي الاعتبار عن ما يُسمَّى بالمحكمة المشتركة !
ولا نعرف ما مقصده بالاعتبار ههنا .
أهو كلام الله ورسوله ؟! أم عمل الصَّحابة سكوتهم الذي يُحمل على إجماعهم في ذلك ؟!
قال الله سبحانه وتعالى : [فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها] .
وهذا أصلٌ يُقاسُ عليه كلُّ تنازعٍ بين المسلمين .
ولو طردنا قول الظَّواهري لقلنا بعدم اعتبار التَّحكيم في هذه الآية !! ولا يقول بذلك مسلم !
كذلك لو طردنا قوله لحكمنا على خيرةِ أهل الأرض بعد الأنبياء بأنَّهم أهل جهلٍ وظلمٍ وطمعٍ وأنَّهم لم يقصدوا الحقَّ ولا طلبوا إنصافاً حين «عيَّن» عليٌّ أبا موسى حكماً من عنده و«عيَّن» معاويةُ عمراً حكماً من عنده !! ولا يقول بهذا من استنَّ بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام وعرف لصحابته قدرهم وحقَّهم !
والصَّحابة هم أولى منَّا باتّباع الحقِّ وطلب الإنصاف في الحكم ولن يكون الظَّواهري ولا ملئ الأرض من مثله أحرص منهم على الإنصاف وأكثر منهم اعتباراً للحقِّ وعرفاناً بكلام الله ورسوله وما يكون به حلُّ النِّزاع ونزعُ الفتيل !
ولم نعرف أنَّ أحداً أنكر صنيع عليٍّ ومعاوية إلا الخوارج !!
وبالجملة فإن وهاء كلامه مُغنٍ عن إكثار الكلام في إبطاله ! والحمد لله .
* قال أيمن الظَّواهري :
« وعلى كل مسلم ومجاهد أن يتبرأ من كل من يأبى ذلك التحكيم . » انتهى .
وهذا تأصيلٌ غريبٌ لا نعرفه !
فالبراءة المُطلقة تكون من المشركين والكافرين , والموالاة المطلقة تكون للموحدين المسلمين .
وإذا وقع مسلمٌ في فسقٍ أو ما يُشين فيُتَبرَّأ من فعله ولا يُعمَّم ذلك فيُتبرَّأ من عينه !
ومن قال بذلك فهو جاهلٌ بالولاء والبراء !
إلا أن كان يقول بأن من لم يرضَ بالمحكمة المستقلة فهو كافرٌ مرتدٌ ! فحينئذٍ يتَّجه قوله ولا يكون فيه إشكالٌ .
وهذا آخر المقصود .
والله أعلم .